
جاءت قصة هلاك قوم لوط جاءت مفصلة في الايات التالية
- إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ [القمر : 34]
- وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء : 71]
- إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر : 59]
أولا : سبب الهلاك : هلك القوم بسبب تكذيبهم لنبيهم عليه السلام في دعوته الى الله تعالى ." كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ [القمر : 33]
ثانيا : كيفية ووسيلة الإهلاك : كانت بإرسال حاصبا من السماء " إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلا آلَ لُوطٍ [القمر : 34]
ثالثا: الناجون من الهلاك : هم أهل لوط أي أسرته وهن بناته .إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر : 59]
موعد نجاة لوط وأهلة : السحر أي الوقت ما قبل الفجر . إِلا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ [القمر : 34]
هلاك قوم لوط عليه السلام
فلما
خرج لوط عليه السلام بأهله في ساعة السحر ، وهم ابنتاه، لم يتبعه منهم رجل
واحد، ويقال: إن امرأته خرجت معه ,ولكنها خالفت امر الله بألا يلتفت
أحدكم خلفه فالتفتت ...فالله أعلم.
![]() |
لوحة تحاكي خروج لوط وابنتيه من بلدته التي خسف الله بها |
فلما خلصوا من بلادهم، وطلعت الشمس فكان عند شروقها جاءهم من أمر الله ما لا يرد. ومن البأس الشديد ما لا يمكن أن يصد.
قال الله تعالى: {فَلَمَّا
جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا
حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا
هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.
وكن
سبع مدن بمن فيهن من الأمم، قيل إنهم كانوا أربع مائة نسمة. وقيل: أربعة
آلاف نسمة وما يتبع تلك المدن من الأراضي والأماكن والمعتملات، فرفع الجميع
حتى بلغ بهن عنان السماء، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} والسجّيل فارسي معرب، وهو الشديد الصّلب القوي (منضود) أي يتبع بعضها بعضاً في نزولها عليهم من السماء (مسومة){مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ}
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ}.
![]() |
خارطة البحر الميت وصورة من الفضاء لبقايا مدن تحت الماء |
قال تعالى:{ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ
كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا
فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ
النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}
أي خانتاهما في الدين فلم يتبعاهما فيه. وليس المراد أنهما كانتا على فاحشة،والله اعلم وقوله هنا:{وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}أي وما هذه العقوبة ببعيدة ممن أشبههم في فعلهم. ولهذا ذهب من ذهب من العلماء إلى أن اللائط يرجم سواء كان محصناً أو لا، وقيل عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به".
وجعل
الله مكان تلك البلاد بحرة منتنة لا ينتفع بمائها ولا بما حولها من
الأراضي المتاخمة لفنائها، لرداءتها ودناءتها، فصارت عبرة ومثلة وعظة وآية
على قدرة الله تعالى وعظمته وعزته في انتقامه ممن خالف أمره وكذّب رسله
واتّبع هواه وعصى مولاه. ودليلاً على رحمته بعباده المؤمنين في انجائه
إياهم من المهلكات، وإخراجه إياهم من النور إلى الظلمات،
كما قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
![]() |
بقايا أشجار قديمة .. ووجود بروزات كبيرة في قاع البحر .. |
وقال الله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمْ
الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ، فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ، وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ، إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي من نظر بعين الفراسة والتوسّم فيهم، كيف غير الله تلك البلاد وأهلها، وكيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة، هالكة غامرة.
كما روى الترمذي وغيره مرفوعا"اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله".ثم قرأ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}.
وقوله{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ}/أي لبطريق مهيع مسلوك إلى الآن،
كما قال: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُون}
وقال تعالى: {وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
وقال تعالى {فَأَخْرَجْنَا
مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ
بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ
يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ}.
نجاة المؤمنين وهلاك الطغاة المعاندين
أخبرت الملائكة لوطا عليه السّلام أنّهم رسل من عند الله عز وجل وانّ أولئك القوم لن يّصلوا إليك فيمسّوك مكروه فليطمئّن قلبك وليهدأ روعك قالت الملائكة : " يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ" لكنّ الأمر لم ينتهي مع أولئك القوم بل استمرّوا على عنادهم أصرّوا على مرادهم في ارتكاب الفاحشة الخبيثة مع رسل الله عز وجل , فمّا اشد الأمر وعظم الكرب وعسر الحال خرج إليهم جبريل عليه السلام فضرب وجوههم فطمس أعينهم كما قال عز وجل في ذلك : "وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ" , فانطلق القوم يتوعّدون لوطا عليه السلام وأضيافه بمجيء الصبح لينتقموا منهم , "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" فأمر الملائكة لوطا عليه السلام أن يسري هو وأهله من اخر الليل قبل الفجر بكثير حين تنام العيون ولا يدري أحد عن مسراهم وليتمّكنوا من البعد عن قريتهم فقالوا له : " فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ" وأمر الملائكة لوطا عليه السلام والذين معه إذا خرجوا ألاّ يلتفتوا خلفهم اذا سمعوا صوت العذاب لا يصيبهم ما أصابهم وليكن همّهم النّجاة وقالوا لهم : "وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ" كأن معهم دليلا يدلهم إلى أين يتوجهون.
وأمّا امرأة لوط فإنّه مصيبها من العذاب ما أصاب قومها لأنّها كانت تشارك قومها في الإثم وتدلّهم على أضياف لوط اذا نزل به أضياف لتعينهم على المنكر , فذكر الله عز وجل أن هذه المرأة خانت زوجها في الدّين وأعانت على محاربته وعداوته كما فعلت امرأة نوح من قبل قال الله عز وجل : "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا" فأمر الملائكة لوطا عليه السلام ألاّ يسير بامرأته وأن يتركها مع القوم الهالكين لتنال العقوبة والعذاب معهم فإنّها منهم . وأخبروه أن العذاب سوف يحلّ بهم بمُجرّد ان تشرق الشمس فقالوا : " إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ" فكأن لوطا عليه السلام استعجل ذلك فقيل له : " أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ" وهذا ممّا رأى من عنادهم وطغيانهم وتجرّئهم على أضيافه الكرام رغم التذكير والوعيد , وذلك انهم لما كانوا أهل وطنه، فربما أخذته الرقة عليهم والرأفة بهم قدَّر الله من الأسباب ما به يشتد غيظه وحنقه عليهم، حتى استبطأ إهلاكهم.
وخرج لوط عليه السلام ومن معه من المؤمنين ولم يكن في القوم إلاّ بيتا واحدا من المسلمين وهو بيت لوط عليه السلام كما أخبر الله تعالى : " فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" , فما هو إلاّ أن أشرقت الشمس فنزل بهم العذاب الموعود قال عز وجل في ذلك : "فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ" أي وقت شروق الشمس , وقال عز وجل : " فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ" وقال عز وجل :" وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى* فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى " (والائتفاك : الانقلاب) , والمعنى أنه عز وجل قلب قراهم فأهوى بها منكّسة فجعل عاليها سافلها وغشّاها بمطر من حجارة صلبة محمّاة بنار شديدة الحرارة مُتتابعةُ، مُعلّمة ,على كل حجر اسم صاحبه الذي سقط عليه من الحاضرين منهم في بلدهم، والغائبين عنها من المسافرين، والنازحين، والشاذين منها. فكان ذلك عذاب يوم عظيم مهيب, لهذا قال عز وجل: "فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى" وذلك لتهويل ما أصابهم وما غشيهم من العذاب الأليم.
قال أهل التفسير كمجاهد وقتادة والسُّدي وغيرهم : بلغنا أن جبريل عليه السلام اقتلع أرضهم وديارهم ثم ألوى بها إلى السماء حتّى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم أكفأهم وجعل عاليها سافلها ثم أتبعهم بحجارة من سجّيل (ذكره ابن كثير في تفسيره). فما هي إلاّ لحظات حتى أصبحوا حصيدا خامدين لا تسمع لهم ركزا ولا تسمع منهم همسا , ذهبت تلك المساعي وانقضت تلك النّعوت ... "فقطع دابر القوم الذين ظلموا" , "لو أنّهم كانوا يهتدون" "وسلام على المرسلين * والحمد لله ربّ العالمين".
العبرة والعظة قال عز وجل : "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ" أي: من نظر بعين الفراسة والتوسّم فيهم، كيف غير الله تلك البلاد وأهلها؟ وكيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة, هالكة غامرة؟ و – " وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ" أي: وإنّ قرى قوم لوط لبطريق بيّن للسالكين يعرفه كل من مرّ بتلك الدّيار وأنّ مسالكها مستمرّة إلى اليوم , فانظروا كيف جعلها الله عز وجل عبرة وعظة لمن خلفهم من الأمم وآية على قدرة الله عز وجل وعزّته وانتقامه ممن حارب رسله وخالف أمره واتّبع هواه , قال تعالى : " وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" , فهي اية بيّنة باقية إلى يوم القيامة تركها الله عز وجل دليلا على جبروته وانتقامه ونكالا لما بين يديها وما خلفها ليتعظ بها أولو العقول الرّزينة فينتفعون بها فيفرّون إلى الله عز وجل ويعلمون أنه لا ملجأ ولا منجا منه إلاّ اليه. لذلك حذّر الله عز وجل قريشا أن يصيبهم ما أصابهم من البلاء والعقاب فقال لهم: "وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ *وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" أي: وإنّكم لتمرون على ديار قوم لوط الذين دمر الله عليهم عند إصباحكم نهاراً ، وبالليل في أسفاركم كقوله عز وجل : "وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا" ومع هذا كلّه لا تخافون من أن يحلّ عليكم غضب من ربّكم فيصيبكم ما أصابهم من النّكال والبأس الشديد فقال عز وجل :"وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ" وذلك ليعلم العباد أن الله عز جل اذا أخذ القرى وهي ظالمة فإنّ أخذه أليم شديد وأن عذابه ما له من دافع , وليعلم العباد أن رسل الله صادقون مُصدّقون فليحذر الذين يخالفون عن أمرهم أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ... "ففرّوا إلى الله".
وذكر سبحانه وتعالى تحذير نبيّه شعيبا لقومه لمّا دعاهم إلى الله أن ينزل بهم بأس الله وعذابه كما فعل بأشياعهم من قبل , قال تعالى : " وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ" , والمراد هنا البُعد في الزمان والمكان فزمن لوط عليه السّلام غير بعيد في زمن شعيب عليه السّلام ، والدّيار قريبة من ديارهم التي سمّاها الله عز وجل ب-"المؤتفكات" أي القرى التي انقلبت على أصحابها فصاروا يسمّون بصفة العذاب الذي حلّ عليهم وألحق بهم جزاءً وفاقا , "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ".
أخبرت الملائكة لوطا عليه السّلام أنّهم رسل من عند الله عز وجل وانّ أولئك القوم لن يّصلوا إليك فيمسّوك مكروه فليطمئّن قلبك وليهدأ روعك قالت الملائكة : " يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ" لكنّ الأمر لم ينتهي مع أولئك القوم بل استمرّوا على عنادهم أصرّوا على مرادهم في ارتكاب الفاحشة الخبيثة مع رسل الله عز وجل , فمّا اشد الأمر وعظم الكرب وعسر الحال خرج إليهم جبريل عليه السلام فضرب وجوههم فطمس أعينهم كما قال عز وجل في ذلك : "وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ" , فانطلق القوم يتوعّدون لوطا عليه السلام وأضيافه بمجيء الصبح لينتقموا منهم , "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" فأمر الملائكة لوطا عليه السلام أن يسري هو وأهله من اخر الليل قبل الفجر بكثير حين تنام العيون ولا يدري أحد عن مسراهم وليتمّكنوا من البعد عن قريتهم فقالوا له : " فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ" وأمر الملائكة لوطا عليه السلام والذين معه إذا خرجوا ألاّ يلتفتوا خلفهم اذا سمعوا صوت العذاب لا يصيبهم ما أصابهم وليكن همّهم النّجاة وقالوا لهم : "وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ" كأن معهم دليلا يدلهم إلى أين يتوجهون.
وأمّا امرأة لوط فإنّه مصيبها من العذاب ما أصاب قومها لأنّها كانت تشارك قومها في الإثم وتدلّهم على أضياف لوط اذا نزل به أضياف لتعينهم على المنكر , فذكر الله عز وجل أن هذه المرأة خانت زوجها في الدّين وأعانت على محاربته وعداوته كما فعلت امرأة نوح من قبل قال الله عز وجل : "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا" فأمر الملائكة لوطا عليه السلام ألاّ يسير بامرأته وأن يتركها مع القوم الهالكين لتنال العقوبة والعذاب معهم فإنّها منهم . وأخبروه أن العذاب سوف يحلّ بهم بمُجرّد ان تشرق الشمس فقالوا : " إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ" فكأن لوطا عليه السلام استعجل ذلك فقيل له : " أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ" وهذا ممّا رأى من عنادهم وطغيانهم وتجرّئهم على أضيافه الكرام رغم التذكير والوعيد , وذلك انهم لما كانوا أهل وطنه، فربما أخذته الرقة عليهم والرأفة بهم قدَّر الله من الأسباب ما به يشتد غيظه وحنقه عليهم، حتى استبطأ إهلاكهم.
وخرج لوط عليه السلام ومن معه من المؤمنين ولم يكن في القوم إلاّ بيتا واحدا من المسلمين وهو بيت لوط عليه السلام كما أخبر الله تعالى : " فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" , فما هو إلاّ أن أشرقت الشمس فنزل بهم العذاب الموعود قال عز وجل في ذلك : "فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ" أي وقت شروق الشمس , وقال عز وجل : " فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ" وقال عز وجل :" وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى* فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى " (والائتفاك : الانقلاب) , والمعنى أنه عز وجل قلب قراهم فأهوى بها منكّسة فجعل عاليها سافلها وغشّاها بمطر من حجارة صلبة محمّاة بنار شديدة الحرارة مُتتابعةُ، مُعلّمة ,على كل حجر اسم صاحبه الذي سقط عليه من الحاضرين منهم في بلدهم، والغائبين عنها من المسافرين، والنازحين، والشاذين منها. فكان ذلك عذاب يوم عظيم مهيب, لهذا قال عز وجل: "فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى" وذلك لتهويل ما أصابهم وما غشيهم من العذاب الأليم.
قال أهل التفسير كمجاهد وقتادة والسُّدي وغيرهم : بلغنا أن جبريل عليه السلام اقتلع أرضهم وديارهم ثم ألوى بها إلى السماء حتّى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم أكفأهم وجعل عاليها سافلها ثم أتبعهم بحجارة من سجّيل (ذكره ابن كثير في تفسيره). فما هي إلاّ لحظات حتى أصبحوا حصيدا خامدين لا تسمع لهم ركزا ولا تسمع منهم همسا , ذهبت تلك المساعي وانقضت تلك النّعوت ... "فقطع دابر القوم الذين ظلموا" , "لو أنّهم كانوا يهتدون" "وسلام على المرسلين * والحمد لله ربّ العالمين".
العبرة والعظة قال عز وجل : "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ" أي: من نظر بعين الفراسة والتوسّم فيهم، كيف غير الله تلك البلاد وأهلها؟ وكيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة, هالكة غامرة؟ و – " وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ" أي: وإنّ قرى قوم لوط لبطريق بيّن للسالكين يعرفه كل من مرّ بتلك الدّيار وأنّ مسالكها مستمرّة إلى اليوم , فانظروا كيف جعلها الله عز وجل عبرة وعظة لمن خلفهم من الأمم وآية على قدرة الله عز وجل وعزّته وانتقامه ممن حارب رسله وخالف أمره واتّبع هواه , قال تعالى : " وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" , فهي اية بيّنة باقية إلى يوم القيامة تركها الله عز وجل دليلا على جبروته وانتقامه ونكالا لما بين يديها وما خلفها ليتعظ بها أولو العقول الرّزينة فينتفعون بها فيفرّون إلى الله عز وجل ويعلمون أنه لا ملجأ ولا منجا منه إلاّ اليه. لذلك حذّر الله عز وجل قريشا أن يصيبهم ما أصابهم من البلاء والعقاب فقال لهم: "وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ *وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" أي: وإنّكم لتمرون على ديار قوم لوط الذين دمر الله عليهم عند إصباحكم نهاراً ، وبالليل في أسفاركم كقوله عز وجل : "وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا" ومع هذا كلّه لا تخافون من أن يحلّ عليكم غضب من ربّكم فيصيبكم ما أصابهم من النّكال والبأس الشديد فقال عز وجل :"وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ" وذلك ليعلم العباد أن الله عز جل اذا أخذ القرى وهي ظالمة فإنّ أخذه أليم شديد وأن عذابه ما له من دافع , وليعلم العباد أن رسل الله صادقون مُصدّقون فليحذر الذين يخالفون عن أمرهم أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ... "ففرّوا إلى الله".
وذكر سبحانه وتعالى تحذير نبيّه شعيبا لقومه لمّا دعاهم إلى الله أن ينزل بهم بأس الله وعذابه كما فعل بأشياعهم من قبل , قال تعالى : " وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ" , والمراد هنا البُعد في الزمان والمكان فزمن لوط عليه السّلام غير بعيد في زمن شعيب عليه السّلام ، والدّيار قريبة من ديارهم التي سمّاها الله عز وجل ب-"المؤتفكات" أي القرى التي انقلبت على أصحابها فصاروا يسمّون بصفة العذاب الذي حلّ عليهم وألحق بهم جزاءً وفاقا , "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شكرا جزيلا لتعليقكم تنمني تكرار الزيارة للإفادة من توجيهاتكم